بقلم. د. سعيد بن مسفر القحطاني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحلم والتسامح والعفو والتواضع أخلاق كريمة وصفات نبيلة لا بدَّ للداعية من التخلق
والاتصاف بها لما لذلك من أثر عظيم في قيامه بواجب الدعوة إلى الله .
فالحلم سيد الأخلاق ومن الصفات التي يحبها الله ـ عز وجل ـ ، يقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأشج عبد القيس : (إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) ، (1) وذلك
لأن المواقف التي يتعرض لها الداعية كثيرة تقتضي منه أن يكون حليماً وإلا وجد نفسه
أمام مشاكل عديدة ، وجبهات عنيفة ربما تشغله عن أداء رسالته وتستحوذ على طاقته
وجهوده ، والقدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أوتي من الكمالات
البشرية ما استحق به ثناء الله عز وجل عليه بقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . (2)
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة
فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية البُرْدِ من شدة
جبذته ، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فنظر إليه فضحك ثم أمر له بعطاء . (3)
وخلق الحلم من دلائل كمال العقل ولا يتحلى به إلا أفراد من الناس كما قال عز وجل :
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }. (4)
كما يلزم الداعية ألا يدعو على أحد ممن آذاه ؛ بل عليه أن يدعو له ، ويصبر على أذاه
فلقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى قومه، وكان بإمكانه الدعاء عليهم
فيهلكهم الله لكنه حلم عليهم رجاء إصلاحهم .
فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قلت للنبي صلى
الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من أحد ؟ قال : { لقد لقيت من قومكِ
وكان أشد مالقيته منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال
، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا
بقرن الثعالب فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أضلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل
ـ عليه السلام ـ فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد
بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم
قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك
لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (الجبلين المحيطين بمكة )
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله
وحده ولا يشرك به شيئاً }. (5)
فلننظر كيف تحلى ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ بهذا القدر من الحلم والذي يشهد
بكمال خلقه وعلو درجته عند ربه ، وعدم انتقامه لنفسه ورغبته في هداية أمته ،
وبُعد نظره وأمله في أن تحصل الاستجابة من هؤلاء أو من ذريتهم ، وهذا تحقق
فلقد دخل أولاد صناديد قريش في الإسلام وكانوا جنوده البواسل وقادته الأشاوس
أمثال عكرمة بن أبي جهل ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ .
ثم لننظر إلى الحالة المؤسفة التي تردى فيها بعض الدعاة إلى الله من الحمق، والجهل
، وعدم التحلي بالصبر ، والحلم ، وقيامهم بالدعاء على بعض إخوانهم في الإسلام
ممن وقعوا في شيء من المخالفات والمعاصي ، وما كان ذلك ليحدث لو أنهم أدركوا
ما يجب أن يكون عليه الداعية إلى الله من الحلم ، والعفو ، والتسامح .
........
(1) رواه مسلم ، رقم 17 .
(2) سورة القلم آية : 4 .
(3) رواه البخاري رقم 3149 ، ومسلم رقم 1057 .
(4) سورة فصلت آية : ﴿34﴾ و ﴿35﴾ .
(5) رواه البخاري رقم :3231، ومسلم رقم : 1795